مقدمة
تُعدّ إثيوبيا أكبر دولة في شرق إفريقيا من حيث عدد السكان،
وثاني أكبر دولة من حيث المساحة، لكنها دولة حبيسة، ويُعدّ هذا الأمر عائقًا
كبيرًا أمام التنمية الاقتصادية والتجارية التي تستهدفها، لأنها تعتمد بشكل كبير
على موانئ الدول المجاورة، مثل جيبوتي، لتصدير واستيراد بضائعها وبالتالي تُشكل
رسوم النقل البحري عبئًا كبيرًا على الاقتصاد الإثيوبي، مما يجعلها أقل قدرة على
المنافسة في الأسواق العالمية، وعُرضة للضغوط الاقتصادية والسياسية من دول الجوار
الساحلية، كما فعلت مع مصر في تحكمها بمياه النيل عقب بناء سدّ النهضة الذي يهدد
مصر بالعطش والجفاف.
كما ترى إثيوبيا نفسها مختلفة عن دول شرق إفريقيا الحبيسة مثل
رواند وبروندي وأوغندا، من عدة
نواحٍ منها عدد السكان والمساحة والتأثير السياسي، وكونها أقرب من تلك الدّول إلى ممر
تجاري عالمي ما يرشحها لتمتلك تأثيراً جيوسياسيا لا يمكن لتلك الدّول الوصول إليه
وهو باب المندب.
ورغم الطموح الإثيوبي العالي في الوصول إلى منفذ على البحر
الأحمر، إلا أن الطريق إلى تحقيق ذلك ليس مفروشا بالورود، فاعتمادها على ميناء
دوراليه الجيبوتي غير مريح لها، كما تدرك جيداَ متطلبات الوصول لميناء تجاري مثل
البنى التحتية الذي ستساهم فيه وتأمين الطرق، كما أن علاقتها مع ارتريا مشوبة
بالشك والريبة، بينما لا ترغب إثيوبيا بالتواصل مع الصومال للتفاهم، بل تستغل
النعرات والنزعات الجهوية بين الصوماليين، وتريد بصريح العبارة الاستيلاء على البر
والبحر دون تكبّد التبعات القانونية والمالية، ما يهدد أمن المنطقة.
وفي هذا التقرير؛ سنستعرض علاقة إثيوبيا بدول الجوار الساحلية،
ويطرح أسئلة منها هل إثيوبيا مستعدّة لبناء علاقات تجارية ونبذ الصراعات مع دول
الجوار؟ وما هي التداعيات المحتملة لسياسات إثيوبية التوسعية على استقرار وأمن
المنطقة؟ كيف يمكن لدول الجوار التعامل مع
طموحات إثيوبيا دون الانخراط في حروب معها؟ وما هو دور المنظمات الإقليمية
والدولية في حلّ هذا النزاع؟
علاقة إثيوبيا مع دول الجوار الساحلية
تتّبع إثيوبيا سياسة توسعية للسيطرة على الأراضي والموارد في دول
الجوار الساحلية استناداً مزاعم تاريخية
وجغرافية وطموحات اقتصادية، وأدّت هذه المزاعم إلى استفزاز تلك الدول التي تراقب
خطوات إثيوبيا بعين الريبة والحذر.
إرتريا
في فترة تّكالب الاستعمار الأوروبي على إفريقيا، نجدد أن
إيطاليا احتلت ارتريا وبعض أراضي إثيوبيا من عام 1890 وحتى 1942، وفي عام 1896 رسمت
الحدود بين إثيوبيا وإرتريا فيما عرف بمعاهدة
أديس أبابا، وفيها أصبحت ارتريا دولة مستقلة، ولكن بعد
هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية خضت البلاد للحكم البريطاني لتصبح
محمية حتى 1951، بينما استعادت إثيوبيا أراضيها المحتلة، وأثناء فترة الحكم
البريطاني وتحديداً في يوليو من عام 1950 قدمت كل من بريطانيا وإيطاليا والولايات
المتحدة في يوليو 1950 مشروعًا لإنشاء دولة فيدرالية تضم إريتريا وإثيوبيا، وتبنته
الأمم المتحدة ورحبت به إثيوبيا وأثار غضب
إرتريا التّواقة للاستقلال.
لم ينجح المشروع الاستعماري في خلق سلام بين الدّولتين، فتأسس
ما عرف بجبهة تحرير إرتريا في 1961، ليبدأ الكفاح المسلح ضد إثيوبيا الذي استمر
لثلاث عقود، حتى نالت إرتريا استقلالها في 1993، وبهذا خسرت إثيوبيا المنفذ البحري
الذي منحها إياه المستعمر الأبيض. ولكن سرعان ما نشأت خلافات حول ترسيم الحدود بين
البلدين أدت لحرب امتدّت من 1998 إلى 2000، وانتهت هذه الحرب بحكم من محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي، الذي
حكم بمنح أرضا أقل مما كانت تطالب بها
ووضعت قوات أممية لحفظ السلام في المنطقة المتنازعة عليها.
وفي عام 2018، اتخذ رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، خطوات
لتحسين العلاقات مع إرتريا وإعادة فتح الحدود واستئناف التعاون الدبلوماسي
والتجاري. ومع ذلك، لا تزال قضية الحدود عالقة، وتخشى إرتريا من المساعي التوسعية
لإثيوبيا الطامحة للسيطرة على سواحلها الحيوية على البحر الأحمر المرشحة لتكون بوابتها المحتملة إلى المحيطات، وبالتالي فقدان
استقلالها وسيطرتها على مواردها البحرية.
وبينما تسعى إثيوبيا إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، تبقى إرتريا حذرةً، وتسعى للحفاظ على سيادتها واستقلالها. وتُعدّ العلاقة بين البلدين نموذجًا معقدًا لـ"حالة اللا حرب واللا سلم"، حيث لا تزال هناك مخاوف وتوترات كامنة، مع آمال ضئيلة في إيجاد حل نهائي وشامل للخلافات الحدودية
جيبوتي
العلاقة بين إثيوبيا وجيبوتي مُعقدة ومتعددة الأوجه، تتميز
بتعاون وثيق في مجالات حيوية مثل التجارة والبنية التحتية والأمن. فإثيوبيا تعتمد
بشكل كبير على ميناء جيبوتي كمنفذ بحري رئيسي لصادراتها ووارداتها. في المقابل،
تستفيد جيبوتي من الاستثمارات الإثيوبية الضخمة في مشاريع البنية التحتية، مثل خط
سكة حديد أديس أبابا - جيبوتي.
ولكن التطورات الأخيرة تلقي ظلالاً من الشك على مستقبل هذه
العلاقة. فإثيوبيا تسعى بشكل متزايد إلى توسيع نفوذها في المنطقة، والتخفف من عبء الاعتماد
شبه المطلق على جيبوتي، ولهذا توصّلت مع إقليم صوماليلاند الانفصالي إلى مذكرة
تفاهم للاستيلاء بصيغة مبهمة على ميناء و20 كم من البر
وقاعدة عسكريّة متاخمة لسواحل جيبوتي، وبشكل عام، تُشير هذه التطورات إلى علاقة
مُتداخلة بين إثيوبيا وجيبوتي، حيث تتلاقى المصالح والاحتياجات مع التنافس
الجيو-سياسي المُتصاعد في المنطقة.
الصومال
تشهد العلاقة بين إثيوبيا والصومال تعقيدات تاريخية عميقة، وعلاقات غير مستقرة، فمرة تبدو حكومتا البلدين في حالة توافق ومرة تبدوان معاديتان
لبعضهما، وقد يظن البعض أن التذبذب هو السّمة الغالبة على العلاقات الخارجية
للصومال، إلّا أن أبي أحمد ينجح دائماً في إثارة قلق الصومال كلّما تقارب البلدان.
ففي 2018، كان أبي أحمد يرتدي قناع حمامة
السّلام وكان أول رئيس وزاء إثيوبي منذ
إسقاط نظام محمد سياد بري، ووقعت مذكرة تفاهم تنصّ على التّعاون واحترام سيادة
البلدين، والاستثمار في عدد من الموانئ، وعندما عاد إلى أديس أبابا صرّح برغبة أمبرطورية
الحبشة القديمة وهي الهيمنة على دول الجوار بما فيها الصومال تحت وحدة سياسية، ما
أثار شكوك الصومال، وطويت مذكرة التّفاهم.
إنّ أهمّ ما يرتبط
البلدين هو القدر الجغرافي، فالحدودٍ
بريةٍ طويلة، وهذا يجبرهما على التّعاون
الأمني لأن اللاجئين الإثيوبين يتجاوزون الحدود رغبة في الهروب من الفقر المدقع،
بينما تخشى إثيوبيا من تسلل الجماعات المسلحة إلى أراضيها، كما أنها جزء من قوات
حفظ السّلام الإفريقية.
ورغم هذه التّداخلات إلا أن رئيس الوزراء خلع قناعه القديم
وأشعل الحروب الإثنية، ووجد أن أهم وسيلة لتشتيت نظر الشعب عن الفشل الأمني هي
الإشارة إلى حلم الوصول إلى البحر، فعقد مذكرة تفاهم مع صوماليلاند في ديسمبر 2023
للاستحواذ على ميناء لم يذكر موقعه و20كم من البر، وإقامة قاعدة عسكرية، والاعتراف بجمهورية
صوماليلاند ما أدّى إلى توتر العلاقات مع الحكومة الصومالية التي ألغت المذكرة في يناير 2024، وحشد الصومال دعما
دوليا وعربيا وإفريقيا، ولكن أبي أحمد لم يجرؤ لا على التراجع عن المذكرة، ولا على
الاعتراف باستقلالية صوماليلاند.
فهم دوافع سياسات إثيوبيا التوسعية
تثير طموحات إثيوبيا التوسعية مخاوف جدية بشأن استقرار المنطقة. فالسعي للحصول على منفذ بحري دائم، دون حوار وضمان
قانوني لمصالح الدول الساحلية المجاورة قد يؤدي إلى تصعيد التوترات، فإثيوبيا المحاطة
بدول ساحلية ليس لديها القدرة المالية على الاستثمار في تلك الدّول مجتمعة، ولا تكفي
جيبوتي وكينيا لتخفيف أسعار السّلع المستوردة، كما أنها تفتقر للمهارات
الدبلوماسية الكافية للاكتفاء بالحوار والاقتناع بحق الانتفاع لا حق التّملك.
ما لا شك أن تأثير إثيوبيا الجيوسياسي ليس بمثل تأثير الصومال
وإرتريا وجيبوتي، على الرّغم من أن تعتبر
نفسها الأقوى في المنطقة بسبب الكثافة السكانية والمساحة وكونها مقر الاتحاد الإفريقي وعلاقتها بالولايات
المتحدة، وتعتقد أنه من غير العدل أن لا تمتلك ساحلا كجيرانها. في أن حين الدّول الساحلية المجاورة لإثيوبيا لا
تمانع في منحها ما تريد، بشرط توقف الأخيرة عن مزاعمها التّاريخية وتقبل بقدرها.
ويرى المراقبون أن الدعم الغربي لإثيوبيا يشجعها على الاستمرار
في سياساتها التوسعية، ويقلل من حساسية المجتمع الدولي تجاه انتهاكاتها لحقوق
الإنسان والقانون الدولي. كما يرى البعض أن الغرب
يستغل إثيوبيا كأداة لتنفيذ أجندته الخاصة في المنطقة، والتي تهدف إلى احتواء
الإسلام السياسي والسيطرة على الممرات المائية الحيوية، خاصة مع صعود قوة أنصار
الله التي أعلنت استهدافها للسفن الإسرائلية في باب المندب ما أدّى لأزمة تجارية دولية
بسبب لجوء سفن الحاويات إلى الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح.
خاتمة
تُعتبر طموحات إثيوبيا التوسعية تجاه دول الجوار الساحلية قضية
معقدة تتطلب حلاً دبلوماسياً شاملاً. فبينما تسعى أديس أبابا
إلى تأمين مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، فإن دول الجوار حريصة على حماية
سيادتها وأمنها، واستمرار التوتر والتصعيد في هذه المنطقة سيكون له عواقب وخيمة
على الاستقرار الإقليمي، وقد يؤدي إلى صراعات طويلة الأمد. لذا، فإن الحل الأمثل يكمن في
التفاوض البناء بين جميع الأطراف المعنية، والتوصل إلى تسويات عادلة تلبي مصالح
الجميع، بعيداً عن التأثير الغربي الذي يسعى لإشعال حرب بالوكالة في منطقة شرق إفريقيا
المهمّشة.